سلسلة مقالات: الذكاء الاصطناعي في النشاط البحثي والأكاديمي – الموضوع الثاني

النماذج التنبؤية ودورها في دعم القرارات الاقتصادية

تمهيد للسلسلة

تناولنا في المقال الأوّل من هذه السلسلة دور الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة، وكيف أسهم في تغيير طريقة الباحثين الاقتصاديين في جمع المعلومات واستخلاص المؤشرات ذات القيمة. في المقال الثاني الحالي، سنسلّط الضوء على محورٍ شديد الأهمية في المجال الاقتصادي وهو النماذج التنبؤية، ودور الذكاء الاصطناعي في تعزيز دقتها وفعاليتها.

أولًا: أهمية النماذج التنبؤية في الاقتصاد

1. مفهوم النماذج التنبؤية

تشير النماذج التنبؤية (Predictive Models) إلى مجموعة من الأساليب الإحصائية والرياضية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تهدف إلى توقّع السلوك المستقبلي لمتغيّرات معيّنة اعتمادًا على بيانات تاريخية وحالية. وبالنسبة للاقتصاد، يُعَدّ توقّع التغيّرات في معدلات النمو والتضخّم وسعر الفائدة وسلوك المستهلك محورًا أساسيًا لتوجيه السياسات المالية والاستثمارية.

2. دورها الحيوي في صنع القرارات

• الحكومات: تعتمد على النماذج التنبؤية في تحديد أولويات السياسة النقدية والمالية (مثل ضبط أسعار الفائدة أو صياغة خطط التحفيز الاقتصادي).
• المؤسسات المالية: تستفيد من التنبؤات لتقييم مخاطر الائتمان وتوجيه الاستثمارات، وتحسين إدارة المخاطر بشكل عام.
• الشركات والمستثمرون: تعطي النماذج التنبؤية صورة أوضح عن توجهات السوق، مما يساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية فعّالة كالاختيار بين خطط التوسع أو الاندماج والاستحواذ.

ثانيًا: كيف يعزّز الذكاء الاصطناعي النماذج التنبؤية؟

1. التعلّم الآلي والتعلّم العميق

• تحليل كميات هائلة من البيانات: يمكن للأنظمة المبنية على الذكاء الاصطناعي التعامل مع مجموعات بيانات ضخمة ومتنوّعة، واستخراج الأنماط الدقيقة المخفية فيها.
• التحسين المستمر: تتعلّم الخوارزميات من الأخطاء السابقة وتُحدَّث النماذج باستمرار وفقًا للبيانات الجديدة، ما يزيد من دقة التوقّعات بمرور الوقت.

2. التنبؤ في الزمن الفعلي (Real-Time Forecasting)

• رصد تحرّكات السوق اللحظية: يمكن اتخاذ قرارات فورية في سوق الأسهم أو العملات، مما يحدّ من الخسائر ويزيد فرص اقتناص الصفقات الرابحة.
• اكتشاف مؤشرات الأزمات مبكرًا: كالبدايات المحتملة للفقاعات العقارية أو ارتفاع نسب الديون بما يهدّد الاستقرار المالي.

3. استشراف التحديات المستقبلية

عبر الدمج بين المعلومات التاريخية والمعطيات الآنية، تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي التنبؤ بملامح الأزمات المحتملة، مثل:

• الأزمات المصرفية الناجمة عن تعثّر المؤسسات المالية
• التضخّم وتذبذب أسعار الصرف
• توقّعات التحوّل في سلوك المستهلك على المدى المتوسط والبعيد

هذا التحليل الاستباقي يساعد صنّاع القرار في صياغة خطط وقائية أو إجراءات احترازية تجنّب القطاعات المالية والاقتصادية الكثير من الخسائر.

ثالثًا: تطبيقات عملية للنماذج التنبؤية الذكية

1. نماذج تقييم المخاطر الائتمانية

• القروض المصرفية: تُستمد المعلومات من التاريخ الائتماني للعملاء، ومستوى الدخل، وتحليل السلوك (مثل عادات الشراء الإلكترونية) لبناء نموذج يتنبأ باحتمال التخلّف عن السداد.
• التأمين: تقدّم البيانات الشخصية والسجلات الصحية وبيانات المركبات نظرة مستقبلية على احتمالية وقوع حوادث أو مطالبات تأمينية، ما ينعكس في التسعير الدقيق للوثائق.

2. نماذج التنبؤ بالطلب والإنتاج

• قطاع التجزئة: تعتمد الشركات على تحليل معطيات المبيعات اليومية، والتوجهات الموسمية، وبيانات المنافسين للتنبؤ بالطلب المستقبلي على المنتجات.
• الصناعات التحويلية: تُمكّن النماذج التنبؤية من إدارة المخزون وخطوط الإنتاج بكفاءة أعلى، عبر توقّع التقلبات في الإمدادات أو احتياجات السوق.

3. السياسة النقدية والمالية

• البنوك المركزية: تستند إلى نماذج تنبؤية ترصد التغيّرات في مؤشرات التضخّم وسوق العمل، وتحدّد أسعار الفائدة المناسبة وضوابط الائتمان.
• الدول الناشئة: يساعد الذكاء الاصطناعي هذه الدول على الحدّ من التقلبات الحادة في أسعار الصرف وتقديم سياسات أكثر استقرارًا لتشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي.

رابعًا: الأدلة الرقمية على فعالية النماذج التنبؤية بالذكاء الاصطناعي

1. تقليل الأخطاء وتحسين الكفاءة

وفقًا لتقرير McKinsey Global Institute (2020)، تمكّنت تطبيقات الذكاء الاصطناعي من تقليص نسبة الخطأ في التوقّعات الاقتصادية بنحو 10% إلى 20% مقارنةً بطرق النمذجة التقليدية. وذكر التقرير أن هذا التحسّن في الدقّة ينعكس بشكل مباشر على كفاءة القرارات الاستثمارية والمالية. 33

2. إدارة المخاطر بصورة أفضل

أشار تقرير آخر من Deloitte (2022) إلى أنّ المؤسسات التي تطبّق نماذج التنبؤ المعتمدة على الذكاء الاصطناعي شهدت تحسّنًا ما بين 15% و25% في كفاءة إدارة المخاطر، لاسيّما في القطاعات المصرفية والتأمينية. 44

3. الأثر الاقتصادي المباشر

عند تحسين دقة التنبؤ واتخاذ القرارات في الوقت الملائم، تُوفّر الشركات والحكومات مبالغ طائلة كانت تُهدر في مشاريع أو سياسات غير مدروسة. وينعكس ذلك بشكل ملموس في استقرار الأسواق المالية وارتفاع معدلات العائد على الاستثمار.

خامسًا: تحديات تبنّي النماذج التنبؤية القائمة على الذكاء الاصطناعي

• توافر البيانات: قد تفتقر بعض الاقتصادات الناشئة إلى سلاسة في الوصول للبيانات أو تواجه مشكلة في جودة البيانات المتاحة.
• التحيّز (Bias): إذا كانت البيانات المستخدمة غير متوازنة أو مشوّهة، فقد تعكس النتائج تحيّزات غير مرغوب فيها، ما يؤثر سلبًا على السياسات المالية والقرارات الاستثمارية.
• الجوانب الأخلاقية: تتعلّق بحقوق الخصوصية وحماية البيانات الشخصية، إذ قد تحتاج المؤسسات إلى إطار قانوني وأخلاقي واضح لاستخدام البيانات الحساسة.
• الاستدامة في صيانة النماذج: تتطوّر الأسواق والظروف الاقتصادية باستمرار، مما يستوجب تحديث النماذج بشكل دوري للحفاظ على موثوقيتها.

خاتمة

تتجلّى أهمية النماذج التنبؤية في الاقتصاد المعاصر بشكلٍ واضح، وتزداد فعّاليتها مع تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي. إذ أن الجمع بين البيانات الضخمة والخوارزميات القادرة على التعلّم التكيّفي يمنحنا فرصًا أوسع لاستشراف المستقبل والتعامل مع التقلبات الاقتصادية بشكل أكثر مرونة. ومع ذلك، تُلقي تحديات التحيّز والخصوصية وتوافر البنية التحتية المناسبة بظلالها على إمكانات الاستفادة القصوى من هذه النماذج، مما يتطلّب تعاونًا بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات البحثية لوضع أطر تنظيمية وأخلاقية مناسبة.

في المقال الثالث من هذه السلسلة، سنناقش كيف يسهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة البحث عبر اختصار الوقت والجهد في جمع البيانات وتحليلها، وكيف يؤثّر ذلك بشكل إيجابي على إنتاج المعرفة وتطوير السياسات الاقتصادية.

إعداد: المجلس الوطني المصري للتنافسية (ENCC)

السلسلة: الذكاء الاصطناعي في النشاط البحثي والأكاديمي – المقال الثانى